عبده البرماوي يكتب: الفيل - ثانية - في حجرة الثورة

 

كتبت - منذ عامين بالتحديد - في المدونة مقالاً بعنوان "الفيل في حجرة التغيير" نعيت فيه علي المتحدثين بخطاب الإصلاح قبل الثورة إيثارهم النقاش حول الديمقراطية واجراءات الانتخاب وغيرها من قضايا السطح الديمقراطي، محدثين صخباً هائلاً واستقطاباً في حجرة التغيير، بينما يتجاهلون حقيقة وجود فيل بلا قيد ديمقراطي معهم في ذات الحجرة، وعليهم التعامل معه والنقاش حول التغيير في ظل وجوده. فيل اسمه المؤسسة العسكرية.

وقد قوبلت دعوتي لادراج مسألة الرقابة الديمقراطية علي قطاع الدفاع والأمن في هذه النقاشات - خصوصاً بين قوي المعارضة الجديدة -بفتور شديد، وقال أحد الزملاء المتخصصين ممن اطلعوا علي المدونة ساخراً إنني أقفز عشرة مراحل في مسار الديمقراطية، بهذا الطرح. وكان ردي أن العسكر هم المسكوت عنه الأكبر في قضية التحول الديمقراطي في مصر، وأنه لا ديمقراطية سيراها هذا البلد دون حسم حدود دورهم وتفاصيل هذا الأمر.

ثم جاءت الثورة سريعاً بمرحلتها الأولي وانسقنا خلف جرأتها وفرحها وطموحها الوثاب، الذي أزاح مبارك، وسعدنا رغم أننا أن نزحح الفيل عن موضعه. ثم تلتها المرحلة الانتقالية بمناوراتها وبطئها واحباطها. علاوة علي عشوائية صراعات المشتاقين للسلطة التي انتجت صخباً رهيباً سياسياً وفكرياً ودينياً، كان أغلبه فارغ وبلا طحين ديمقراطي حقيقي. وهي مرحلة أفقنا فيها علي الواقع الصادم، إذ هيمن العسكر علي دفة الأمور.


ولعله من حسن الطالع الذي تأخر كثيراً، أن احتدم الجدل الآن بين القوي السياسية حول دور المؤسسة العسكرية في الدولة، ومدي التزامها بمبدأ السيطرة المدنية. بعدما حرك الفيل رأسه معلناً عن وجوده. الآن ونحن تحت حكم مجلس أعلي يضم تسعة عشر قائداً يمثلون زمرة القيادة العسكرية العليا في البلاد، ويدير شؤونها، ويمارس مهام السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، بدأنا نسمع أصوات من يطالبون بتحصين القوات المسلحة، مرددين قول حق، يراد به الباطل السياسي عينه. إنهم بزعمهم تحصين القوات المسلحة من أهواء الحاكم الفرد، يضعوننا أمام خيار خطر، وهو وضع مفاتيح كل ما يتعلق بأمن البلاد في يد تلك الزمرة الصغيرة من القادة. ذلك، دون وضع أدني اطار ديمقراطي لهذه الحماية، ولا دون افتراض تغول المؤسسة العسكرية - التي أفردوها بالقرار- علي إرادة الشعب، رغم أن التاريخ الحديث المعروف لمتوسطي المعرفة قبل المتخصصين، زاخر بالوقائع المشابهة لاستبداد العسكر، والتي كان مبعثها اغواء السلطة المطلقة مع امتلاك أدوات العنف. وكانت نتيجة هذه التجارب المأساوية أن أهدرت سنينا من عمر المجتمعات وعطلت طموحاتها للنهضة والتنمية والحرية. تعمد هؤلاء تجاهل درس التاريخ، بل وأغمضوا الطرف عن الواقع المعاين من حولنا، ناهيك أنهم لم يتتبعوا التطور الكبير للرقابة الديمقراطية وكيفية تحقيق ضوابطها في قطاع الدفاع في دول كثيرة حول العالم متقدمة وعالمثالثية. بل ولم ينظروا لعدوتنا اسرائيل المشهورة بهوس الأمن القومي، والمتخم الحكم فيها بحجج تقود لوجود العسكريين في الواقع السياسي بقوة
، ورغم هذا تشهد جدالا كبيرا وناضجاً حول مسائل الرقابة الديمقراطية، وسبل تطبيقها.

هل علينا أن نصف هذا النوع من الدعوات بأنه ردة عن الثورة ومبادئها، وبينونة يصنعها البعض لتبعدنا عن الديمقراطية المأمولة، يعيقون بها الطريق، ويهدمون ما نجتهد لبنائه. إن دعاة التحصين للمؤسسة العسكرية بموادهم التي أدمجوها في ما يعرف إعلاميا الآن بوثيقة علي السلمي للمبادئ الدستورية، أو فوق الدستورية، يدفعون بنا – متعللين بكم هائل من مخاوف مختلقة يصبونها في اذان الناس - للانتقال بنا من ديكتاتورية مبارك المقيتة التي كلفنا انهاؤها معاناة كبيرة، ودماء مئات الشهداء، لديكتاتورية "يونيتا عسكرية" ثقيلة اليد تمارس استبدادها بمعزل عن أي رقابة، وعلي نمط انقضي وعفا عنه الزمن، ولفظته الدول، بعضها بالثورات السلمية وبعضها بالدماء الغزيرة.

ويبدو أن تذكير هؤلاء الذين يزعمون أن مدخل طروحاتهم ديمقراطي، وأنهم يستلهمون النماذج الديمقراطية الراسخة، وتعريف أشياعهم بألف باء ديمقراطية قد صار واجباً الآن.

نسأل معاً: لماذا تطبق الدول الديمقراطية رقابة برلمانية علي كل المؤسسات المتعلقة بالأمن الداخلي والخارجي، من جيوش، لأسلحة، لوحدات مخابرات، وأجهزة شرطة، لمراكز بحث أمني ودعم قرار دفاعي. الإجابة، لأن السيطرة المدنية مبدأ ديمقراطي راسخ، ينطلق من سيادة الشعب، ومن حق ممثليه المختارين ديمقراطياً في أن يكونوا المؤتمنين الأول علي مصالحه وأمنه، وهو رمانة الميزان في تحقيق توازن الديمقراطية.

سيهتف قائل متعجل كيف تقولون هذا، تجعلون مدنيا يعبث في أمور السيادة القومية، ويتحدث بل ويتحكم في الجوانب الأمنية والدفاعية للدولة. نقول له إن عملية تنظيم العلاقات المدنية العسكرية أمر حاسم في تحقيق الحكم الصالح. وأن هناك مبادئ تحكم هذا الأمر، تضمن ألا يتغول البعض تحت ستار هذا الذي ترفعه من دعاوي السيادة والحساسية والسرية والمخاطر علي الأمن والانكشاف أمام القوي الخارجية، وكل هذا.. لنسمع هذه المبادئ، والتي تلخص تجارب العديد من مناطق العالم والتي تلخصها كذلك مدونة أخلاقيات الرقابة علي الأمن التي تبنتها منظمة الأمن والتعاون الأوربى:

أولا: الدولة هي المالك الوحيد لأدوات العنف، والمحتكر لاستخدامها، وتخضع المؤسسات التنفيذية التي توكلها الدولة هذا الاستخدام للمساءلة أمام المؤسسات الشرعية.

البرلمان له السيادة الكاملة، ويحمل للجهات التنفيذية المسئولية عن وضع سياسات الدفاع والأمن وتنفيذها، في إطار يضمن مراجعة أدائها ويحاسبها

ثانيا البرلمان هو المضطلع بالدور الدستوري للموافقة علي الانفاق علي مختلف جوانب الدفاع والأمن، وله مراجعة هذا الانفاق

ثالثا للبرلمان الدور الحاسم في اعلان الحرب، وحالات الطوارئ، وهو المسئول باسم الدولة عن اسباب هذا الاعلان، وهي الحالات التي تعمل فيها القوات المسلحة بكامل جهوزيتها وكفاءتها

رابعاً مبادئ الحكم الرشيد لا تستثني مؤسسة من المؤسسات في الدولة، فسيادة القانون تسري كمبدأ علي الجميع، وبالتالي قطاع الدفاع والأمن والعاملين فيه ، ولهذا يخضع هؤلاء الأفراد للمساءلة أمام المحاكم القضائية، في حال مخالفتهم للقوانين الوطنية والدولية، ومنها المخالفات المدنية والجنائية.

خامساً والأهم أنه يستحيل تحقيق الحياد السياسي لمؤسسات الدفاع والأمن دون فرض هذه الرقابة البرلمانية والقضائية.

لابد من عملية كفوء لصنع سياسات دفاعية وأمنية تكون متوقعة من قبل الشعب، ومنفتحة علي النقاش بين القوي السياسية المختلفة، دون أن يكون لهذا تأثير سلبي علي الجهاز الفني والإداري الذي يدير هذه السياسات، عملية تسهدف تحقيق المصالح العامة، والحد من المخاطر التي قد تهدد الدولة. والحقيقة أنه لا يمكن أن توجدفي واقع ديمقراطي مثل هذه المؤسسة الدفاعية أو الأمنية الكفوءة والملتزمة بأهدف مجتمعها دون احترام سيادة القانون، وتعزيز الشفافية في هذه المؤسسة، ومتابعة الأداء فيها، وتشجيع بناء مجتمع مدني حولها يكون قوياً ويدعم وجودها. فبدون هذه الضمانات سنكون أمام مؤسسة تضع السياسات العامة علي نحو متعسف، بواسطة بيروقراطية غير مسؤولة، تتحرك ضمن أطر قانونية تفتقر للعدالة، كما أنها حين تنفذ برامجها لا ضمانة علي التزامها باهدافها، ولا حد علي تغول أحد من العاملين فيها بسلطته، وإساءته استخدامها، ولن تستطيع أن تمنع الفساد وممارساته فيها.

علينا أن نتذكر جميعاً هذه الحقائق.. ولابد من التنبيه الآن لهذا الأمر، فالبعض تختل أولوياته الديمقراطية، وينخرط في جدالات فارغة، ونقاشات لا غرض لها سوي الإلهاء لتمرير معوقات للديمقراطية من هذه العينة التي تطرحها وثيقة السلمي. لابد للقوي السياسية المعنية بعملية وضع الدستور الجديد والتي ستنهمك في المنافسات الانتخابية، قبل أن تشرع فيها من التوافق علي مبدأ السيادة المدنية، وعلي تبني أحدث النظم الدولية المحققة لفاعلية الرقابة البرلمانية علي قطاع الدفاع والأمن.

 

تعليقات القراء