هل يشترط التفتيش عن حالة الفقير لإعطائه زكاة الفطر؟.. الإفتاء تجيب

أكدت دار الإفتاء المصرية على موقعها الرسمي قائلة:"هذه المسألة قد تعرض كثيرًا لمن تعود أن يعطي السائلين أو من يكون ظاهر حالهم الفقر والمسكنة، خاصة أصحاب المهن البسيطة، فلا يدري المعطي هل الآخذ مسلم أو غير مسلم في بلد يغلب على أهله الإسلام.
وهذه المسألة التي تعرف في مصطلح الفقهاء بمسألة التحري، فيطالب المكلف بالتحري في باب الزكاة بإيصال المال إلى مستحقيه؛ لأنه مطالب بإخراج المال إلى أنواع مخصوصة، فإن أخرج المال إلى غير هذه الأنواع فقد فعل بعض ما طلب منه لا كله، كما أنه مطالب بإخراج الزكاة بيقين فلا تبرأ ذمته إلا بيقين".
والأصل في زكاة الفطر أنها واجبة؛ لما جاء في "الصحيحين" عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ".
وأما مسألة التحري فيكفي الـمُكَلَّف فيها الاجتهاد وبذل وسعه ما لم يظهر خلافه؛ لأن هذا ما يملكه ويقع تحت طاقته.
قال الإمام الحطاب المالكي في "مواهب الجليل" (2/ 359، ط. دار الفكر): [قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي "نَوَازِلِهِ" فِي مَسَائِلِ الْحَبْسِ فِي أَوَّلِ الْوَرَقَةِ الرَّابِعَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْحَبْسِ: وَأَمَّا الَّذِي زَكَّى مَالَ يَتِيمَةٍ ثُمَّ انْكَشَفَ أَنَّهُ أَعْطَاهُ غَنِيًّا وَهُوَ يَظُنُّهُ فَقِيرًا؛ فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِمَّا صَنَعَ؛ لِأَنَّ الَّذِي تُعُبِّدَ بِهِ إنَّمَا هُوَ الِاجْتِهَادُ فِي ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ إذَا أَعْطَى زَكَاتَهُ لِغَنِيٍّ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَجْزَأَتْهُ زَكَاتُهُ. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ تُسْتَرَدَّ مِنْ عِنْدِهِ إذَا عَلِمَ بِهِ وَقَدَرَ عَلَيْهِ، انْتَهَى] اهـ.
فإن قيل: هناك فرق بين مسألة الغنى وعدم الإسلام؛ فالأولى تتفاوت فيها الأنظار بخلاف الثانية، فالجواب: أن هذا يظهر في حال تبين خلاف اجتهاد المكلف، فحينئذ هو مطالب بإعادة دفع الزكاة، أما إذا لم يتبين خلاف ذلك فالمسألة على الإجزاء، وقد ورد التصريح بذلك في كلامهم.
قال العلامة ابن قدامة في "المغني" (2/ 498، ط. مكتبة القاهرة): [وَإِذَا أَعْطَى مَنْ يَظُنُّهُ فَقِيرًا فَبَانَ غَنِيًّا: فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا: يُجْزِئُهُ. اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَعْطَى الرَّجُلَيْنِ الْجَلْدَيْنِ، وَقَالَ: «إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا مِنْهَا، وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ، وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ». وَقَالَ لِلرَّجُلِ الَّذِي سَأَلَهُ الصَّدَقَةَ: «إنْ كُنْت مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُكَ حَقَّكَ». وَلَوْ اعْتَبَرَ حَقِيقَةَ الْغِنَى لَمَا اكْتَفَى بِقَوْلِهِمْ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ، فَوَضَعَهَا فِي يَدِ غَنِيٍّ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ عَلَى غَنِيٍّ، فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ: أَمَّا صَدَقَتُك فَقَدْ قُبِلَتْ، لَعَلَّ الْغَنِيَّ أَنْ يَعْتَبِرَ فَيُنْفِقَ مِمَّا أَعْطَاهُ اللهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ الْوَاجِبَ إلَى غَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ، فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ عُهْدَتِهِ، كَمَا لَوْ دَفَعَهَا إلَى كَافِرٍ، أَوْ ذِي قَرَابَتِهِ، وَكَدُيُونِ الْآدَمِيِّينَ. وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَأَبِي يُوسُفَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالرِّوَايَتَيْنِ. فَأَمَّا إنْ بَانَ الْآخِذُ عَبْدًا، أَوْ كَافِرًا، أَوْ هَاشِمِيًّا، أَوْ قَرَابَةً لِلْمُعْطِي مِمَّنْ لَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِ، لَمْ يُجْزِهِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ، وَلَا تَخْفَى حَالُهُ غَالِبًا، فَلَمْ يُجْزِهِ الدَّفْعُ إلَيْهِ؛ كَدُيُونِ الْآدَمِيِّينَ، وَفَارَقَ مَنْ بَانَ غَنِيًّا؛ بِأَنَّ الْفَقْرَ وَالْغِنَى مِمَّا يَعْسَرُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ وَالْمَعْرِفَةُ بِحَقِيقَتِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ [البقرة: 273] فَاكْتَفَى بِظُهُورِ الْفَقْرِ وَدَعْوَاهُ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ] اهـ.
ومما يوسع الأمر أن هناك من أهل العلم من قال بجواز دفع زكاة الفطر إلى الذمي؛ فللمكلف تقليد هذا القول إذا احتاج إليه.
قال العلامة الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (2/ 74، ط. دار الكتب العلمية): [وَالْمَسَائِلُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَيْهِ ذَكَرْنَاهَا فِي زَكَاةِ الْمَالِ، وَشَرَائِطِ الرُّكْنِ أَيْضًا مَا ذَكَرْنَا هُنَاكَ غَيْرَ أَنَّ إسْلَامَ الْمُؤَدَّى إلَيْهِ هَهُنَا لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِجَوَازِ الْأَدَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، فَيَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ] اهـ.
وقد بيَّن الإمام ابن رشد الحفيد المالكي في "بداية المجتهد" (2/ 44، ط. دار الحديث بالقاهرة) سبب الخلاف بين الفريقين؛ فقال: الفصل الخامس في مصرفها -أي: زكاة الفطر-: [وأما لمن تُصرف: فأجمعوا على أنه تصرف لفقراء المسلمين؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «أغنُوهُمْ عَن السُّؤالِ في هَذَا اليَومِ». واختلفوا: هل تجوز لفقراء الذمة؟ والجمهور على أنها لا تجوز لهم، وقال أبو حنيفة: تجوز لهم. وسبب اختلافهم: هل سبب جوازها هو الفقر فقط، أو الفقر والإسلام معًا؟ فمن قال: الفقر والإسلام؛ لم يجزها للذميين، ومن قال: الفقر فقط؛ أجازها لهم] اهـ.
وبناء على ما سبق نقول: إنه ينبغي على المسلم أن يتحرى أن تقع زكاته في يد من أُمر بإعطائه؛ لأن هذا هو الأصل، ولأن الخروج من خلاف العلماء مستحب، لكن إن اجتهد ثم تبين خلاف اجتهاده: فإما أن يعيد إخراج الزكاة خروجًا من الخلاف، وله أن يكتفي بما فعل أولًا تقليدًا لمن أجاز ذلك من أهل العلم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

تعليقات القراء